قرية دالية الكرمل، هي من أجمل القرى في العالم، فهي تنتشر، ببيوتها العامرة، على جبال وتلال وهضاب، وفي وديان وسهول ومنحدرات، تشرف من جهة على البحر المتوسط، في أكثر من مكان، وتطل على قمم الكرمل الأخرى ـ تستقبل صعود الشمس صباحا، بكامل هيبتها وحرارتها ودفئها، وتودعها مساء، وهي كأنها تغطس في البحر، وهذا المنظر الذي يتكرر كل يوم، يبرهن للمشاهد الواقف بجانب مقام سيدنا أبي إبراهيم (ع)،أبعاد عملية الخلق والخلود وعظمة الخالق وقوته.
دالية الكرمل، تتربع فوق قمم وسهول الكرمل، هذا الجبل المقدس، الذي كان محطة للأولياء والأنبياء والرسل، هذا الجبل الذي يربض كالأسد أمام البحر، يشهد أن حضارات عامرة نشأت فيه، ومعارك ضارية وقعت بجانبه، وحوادث هامة تسجل قدسيته وعظمته وعلو شأنه.
وفي مثل هذه الأيام، قبل أربعمائة سنة تقريبا، وصل أوائل الجنود البواسل، من جيش فخر الدين المعني الثاني، واستوطنوا الكرمل، وبنوا لهم فيه ست عشرة قرية عامرة، تنبض بالحياة.وقد سمعنا من الآباء والأجداد، قصصا ووقائع وذكريات، عن الماضي العريق، وعن صمود هذه القرى، أمام كل محاولات هدمها وإبادتها، إلى أن جاء إبراهيم باشا المصري، فحارب القرى الدرزية هنا،بجيوشه التي هزمت الإمبراطورية العثمانية بأكملها، ووضع كل ثقله ضدها انتقاما لفشله مع الدروز في جبل الدروز، فاضطر سكان أربعة عشر قرية، أن ينزحوا عنها، وأن يتركّزوا في قريتي عسفيا ودالية الكرمل، اللتين بقيتا شامختين حتى اليوم.
وفي هذه الأيام، وفي صباح العاشر من شهر تشرين ثاني، هذه السنة، زادت قرية دالية الكرمل جمالا، وزادت قداسة، وزادت عنفوانا، حيث حل في ربوعها، ضيوف أكارم أجلاء، ملأوا شوارعها وساحاتها بالعمائم البيضاء الموقرة، وبثوا فيها عطر العقيدة والإيمان ، ونشروا في ربوعها أجواء الأخوة والمحبة والصفاء. في هذا اليوم، حل فيها فضيلة الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في البلاد وصحبه الكرام، رجال الدين الأفاضل من كافة القرى الدرزية، الذين تشهد لهم الطائفة كلها، أنهم القيادة الروحية، والصفوة المختارة، والزعامة الدينية، والوجه القدسي الناصع لهذه الطائفة الكريمة، التي تحارب بسلاح الإيمان، وتحتمي بغطاء العقيدة، وتفتح طريقها بالتسامح والكرم والود والخير والإخلاص.
لقد لبست دالية الكرمل، حلة قشيبة من الزينة والمباهج والاستعدادات، لهذا اليوم الكبير، فهبت شيوخا وشبابا ونساء وأطفالا، تستقبل الضيوف الكرام، تسير خلفهم، ترحب بهم، وتعمل كل شيء من أجل راحتهم وانبساطهم. لقد قام المشايخ الأفاضل، في موكب مهيب، يبلغ طوله حوالي ألف متر، بالتجوال بين الخلوات الستة الموقرة في القرية، تسبقهم الخيول الأصيلة، يقودها شباب يعتزون بدرزيتهم وانتمائهم وجذورهم، وهم يقلدون أجدادهم الأشاوس، الذين كانوا يمتطون صهوات الجياد في كل أعمالهم البطولية المجيدة، التي كانت تجري دفاعا عن القرية والكرامة. ويسير من بعدهم، الشباب من مختلف الأعمار، الذين لم يصلوا حتى الآن إلى التذوق من مناهل الدين، لكنهم فخورون بطائفتهم، يعتزون بأهاليهم ، يرفعون رؤوسهم بمشايخهم الأجلاء، وهم ينتظرون دورهم يوما ما، أن يصلوا إلى درجة العقال القريبين من مصادر التوحيد. ووراء هؤلاء الشباب، يسير شباب لكن بلباس ديني، وأولئك هم أشبال الدين، إذا صح التعبير، الذين سيرفعون بدورهم، لواء العقيدة والإيمان في المستقبل، ومن بينهم، يبرز الأخيار والحكماء والزهاد، والنخبة الدينية التي ستحمل المشاعل بدورها، لتنير الطريق أمام الجماهير، وأمام الأجيال.هؤلاء المشايخ الشباب، هم شعلة من الحركة والقوة والنشاط، هذا اليوم هو يومهم، تجدهم يعملون كل شيء، ينصبون العرش، ينظفون الطرقات، ويعملون كل شيء، كي يشعر الضيوف بالراحة والاطمئنان، في ربوع هذه القرية الوادعة، هؤلاء المشايخ الشباب، يشكّلون في المسيرة، القوة التي تفتح الطريق أمام القافلة الحقيقية، وهي جموع المشايخ الأجلاء، الذين حضروا من كافة القرى الدرزية في الجليل وهضبة الجولان والكرمل، ليشاركوا في الزيارة الكبرى لدالية الكرمل. وقد تصدر القافلة، فضيلة الشيخ موفق طريف، وفضيلة الشيخ صالح القضماني، وقضاة المحكمة الدينية، وأئمة الخلوات، ومئات المشايخ المحترمين، من مختلف الأعمار، يسيرون بثقة واطمئنان وسعادة وزهو وافتخار، يتنقلون من خلوة لخلوة، لمباركة الخلوات والتبارك بها، ولتثبيت دعائم الإيمان والتوحيد في النفوس، ولترسيخ جذور الدين والعقيدة، في عقول الشباب، وللدعوة للوحدة والتسامح، والتكتل والعمل صفا واحدا، من أجل كرامة الطائفة، وعلو شأنها.وتسير وراء المشايخ النساء المؤمنات الفاضلات، تصعدن باحتشام وطهارة، في أعقاب أهل القداسة، وتزدن حشمة وصيانة وطهارة، في عصر برزت فيه بعض الظواهر السلبية في مجتمعنا، بسبب انكشافنا للمدنية والحضارة، لكن الأغلبية الساحقة من نسائنا، ما زلن، والحمد لله، مصونات شريفات، تقمن بواجباتهن على أحسن وجه، وهن مخلصات لبيوتهن وأهلهن وأولادهن ومجتمعهن.
هكذا، انتقل الوفد الكبير، الذي بدأ بمئات الضيوف، وتحول إلى تظاهرة توحيدية هائلة، بلغ عددها حوالي خمسة آلاف مشترك، تجمعوا في قاعات وساحة مقام سيدنا أبي إبراهيم(ع)، فكنت ترى بحرا من العمائم البيضاء، وكنت ترى بجانبهم، آلاف الشباب من أبناء القرية، يرتشفون كل كلمة، ويسمعون بشغف كل نشيد، ويمتعون أنظارهم برؤية المشايخ الأجلاء، والجماهير الغفيرة التي أثبتت وتثبت أن هذه الطائفة، إن توحدت، بشبابها وشيوخها، وإن عملت بتنسيق وتعاون بين كافة عناصرها، فباستطاعتها، أن تحقق كل ما تصبو إليه، وأن تفرض احترامها على كافة المؤسسات والطوائف والشعوب. هذه الطائفة، تستطيع بحكمة شيوخها، وسواعد شبابها، وعصمة وطهارة نسائها، أن تبني لها أحسن كيان، وأفضل مستقبل.
لقد قام المشايخ الأفاضل، بدخول كل خلوة وخلوة، واستُقبلوا هناك بالترحاب والفخر والاعتزاز، فأدوا واجبهم، بتلاوة ما استطاعوا، وقدمت لهم واجبات الضيافة، فشكروا القيّمين على كل خلوة، وغادروها بعد أن سجل في تاريخ هذه الخلوة، تاريخ جديد، سيظل منارا وفخرا للأجيال القادمة. وهناك خلوات، قام بزيارتها فضيلة المرحوم الشيخ أمين طريف في حينه، وفضيلة المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج، وفضيلة المرحوم الشيخ جمال الدين شجاع، وعدد كبير من أصحاب الفضيلة، من مشايخ لبنان وجبل الدروز وبلادنا. وهذه الخلوات تشهد اليوم، زيارة وجوه جديدة لامعة من مشايخنا ألأفاضل، يزيدون سجل التشريفات أسماء براقة أخرى. وبين كل زيارة وزيارة، سارت مواكب القافلة، في شوارع دالية الكرمل الواسعة. وبهذه المناسبة، علينا أن نشكر مخاتير دالية الكرمل وعقالها في السابق، الذين فكروا في حينه بالمستقبل، وكأنهم عرفوا بإلهام رباني، كيف ستكون الأحوال في أيامنا، ففرضوا على السكان، أن يبتعد كل واحد ببيته عن الطريق، لذلك شقت طرق واسعة عريضة، تسير فيها السيارات باطمئنان. حتى في البلدة القديمة المكتظة، التي تلتصق بيوتها الواحد بالآخر، تستطيع السيارة أن تدخل بأمان، إلى كل بيت في أقدم نقطة في القرية. هذه الشوارع، امتلأت بموكب القافلة، وهب سكان دالية الكرمل، الذين يسكنون بجانب الشوارع، في طريق القافلة، هبوا بكرمهم وجودهم وعطائهم، ومد كل واحد منهم، أكثر من طاولة، مليئة بكل ما لذ وطاب من المأكولات والمرطبات، وهو يرجو من المارين، أن يتوقفوا بجانبه، ويتناولوا ما يحلو لهم. وقد قدمت واجبات الضيافة في الخلوات، وفي الطرقات، واتفق جميع سكان القرية، أن تكون الضيافة المركزية، في باحة مقام سيدنا أبي إبراهيم (ع)، فبرز الكرم الطائي، والضيافة الحاتمية، بأحلى صوره، وذكّرنا ذلك، بمناظر مشابهة، شاهدناها في حرفيش، وجث، وبيت جن، والبقيعة، وبقعاثا، وجولس،وأبوسنان، حيث نظمت زيارات مشابهة، وقام السكان الكرام هناك، بالتفاني من أجل راحة الضيوف، وتقديم واجبات الضيافة لهم.
وفي باحة المقام الكريم، الذي زاره سيدنا شيخ الجزيرة اليوم، فضيلة الشيخ أبو محمد جواد، أطال الله في عمره، قبل أربع وعشرين سنة، ليشكر نبينا أبا إبراهيم (ع)، على النصر الكبير، الذي حققه إخواننا الدروز في لبنان، في الحرب الأهلية، التي وقعت، والتي كان فيها، لقوات أبي إبراهيم (ع)، شأن كبير في الانتصار الساحق، في باحة المقام، اجتمع الحشد الكبير، وجرى اللقاء العظيم، بين جميع أقطاب هذه الطائفة الكريمة، وتجلت الطائفة الدرزية بأحلى صورها, وساد الناس جميعا جو من التعالي، والشعور بالزهو والفخر والاعتزاز، بهذا الانتماء المعروفي المقدس.وتحت قبة سيدنا أبي إبراهيم (ع)، تجدد العهد بين الحاضرين، أن يعمل كل واحد ما بوسعه، من أجل العودة للأصول والمقدسات، ومن أجل التعاون الكامل بين جميع أجزاء الطائفة، ومن أجل الاستمرار بالمسيرة التوحيدية، على ضوء التعاليم والعقائد والشرائع الناموسية التوحيدية الدارجة. وفي هذا الموقف التاريخي المشرف، شعر الكبير والصغير، والمتدين وغير المتدين، والرجل والمرأة، وكل من تواجد في هذا المكان، في تلك اللحظة، أن الزمن يتوقف، ليسجل صورة للطائفة الدرزية ولدالية الكرمل، ستظل نبراسا، وهداية، وشعارا إلى الأبد، وستزيد لقداسة الكرمل قداسة جديدة، وستكون العامل المباشر، والدافع الرئيسي، لهذا الطائفة، أن تجدد أصالتها، وأن تستمر بمسيرتها العرفانية، التي بدأت في مثل هذه الأيام، قبل ألف سنة، على ضفاف النيل، وفي مشارف جبل السماق، وفي منحدرات وادي التيم، وبين شقي قرون حطين، واستمرت خلال ألف سنة، حتى يومنا هذا، بفخر وعزة وكرامة وسؤدد وإباء.