أَدِيْب الشِّيْشَكْلِي يُصْفَعُ ويُلْقَى أَرْضًا في الوَحْلِ في سَاحَةِ يِرْكا
من أَرشيف البروفيسور علي صغيَّر
ما نُريدُ أَنْ نتحدَّثُ عنهَ وقعَ في أَحدِ أَيَّامِ شهرِ أَيَّار عام 1948، ولكنَّنا لا ندرِي بِالضَّبطِ في أَيَّ يومٍ أَيَّامِ ذلكَ الشَّهرِ كانَ ذلك. بعضُ أَلأُمُورِ التي سوفَ نرويها سمعناها مِنَ خمسةِ أَشخاصٍ، ثلاثةٌ مِنهُم مِنْ يِرْكا واثنانِ مِن بلدةِ مجدلِ شمس بجبلِ الشَّيخِ، أَلأَشخاصُ مِن يِرْكا هُمُ المَرحُوْمُونَ المشايخُ مرزوق سْعِيد معدِّي وجبر داهش معدِّي والأُستاذُ سليمان علي معدِّي، نجلُ الشَّيخِ علي ملحم معدِّي، الذي كانَ يُعْرَفُ عندنا في يِرْكا، وعندَ كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ، باسمِ "الخَال"، هؤلاءِ الرِّجالُ الثَّلاثةُ كانُوا شُهُودَ عِيَانٍ لِمَا نُريدُ نقُصَّهُ، والشَّخصانِ مِنْ بلدةِ مجدلِ شمس هُما المرحُومُ الشَّيخُ مَزْيَد فارس أَبو صالح، الذي كانَ خلالَ حربِ عام 1948، أَحدِ جُنُودِ الفرقةِ العسكريَّةِ التي كانتْ تُعرَفُ بالاسمِ "مَفْرَزَةُ مجدلِ شمس"، أَو "فرقةُ الجُولانِ وإِقليمِ البِلاَّن"، وحينَ حصلتِ الحادثةُ التي نُريدُ أَن نرويها كانَ مَعَ فرقتِهِ العسكريَّةِ مُتَوَاجِدًا في يِرْكا، وكانَ هو الآخرُ، شاهدَ عِيَانٍ على تلكَ الحادثةِ، والشَّخصُ الخامسُ هو الأُستاذُ صَقْر أَبو صالح، وهو إِبنُ أَخِ المرحُومِ الشَّيخِ أَبي طلال سُلطان كَنْج أَبي صالح (1924-1987)، الذي كانَ رئيسَ الفرقةِ العسكريَّةُ التي ذَكَرْناها، وهو الذي صَفَعَ الشِّيْشَكْلِي وأَلقاهُ في الوَحْلِ في ساحةِ يِرْكا، كما سَوْفَ نَرَى فيما يلي.
ومِنْ بينِ الجُنُودِ الدُّرُوزِ الذينَ كانُوا ينتَمُونَ إِلى تلكَ الفرقةِ العسكريَّةِ السُّوريَّةِ، نذكُرُ المرحُومِيْنَ المشايخَ فارس مَشْعَل أَبو صالح وعلي حسين أَبو صالح وتوفيق أَبو صالح وجميل رَبَاح، وكُلُّ هؤلاءِ مِنْ بلدةِ مجدل شمس، وتوفيق عْمَاشَة مِن بُقْعَاثَا، وعِماد العماد، مِن قريةِ بْقَعْسَم بِإِقليمِ البِلاَّن، وفارس الطَّويل مِن قريةِ حَضَر بِإِقليمِ البِلاَّن أَيضا. المرحُومُ الشِّيخُ فهد محمود مِنْ مجدل شمس كانَ ينتَمِي هو الآخرُ إِلى تلكُ الفرقةِ العسكريَّةِ، ولكنَّهُ اسْتَشْهِدَ في معركةِ الهُوشَة والكَسَايِر
(12-16.4.1948)، قَبْلَ قُدُومِ الشِّيْشَكْلِي إِلى يِرْكا، أَي قَبْلَ حادثةِ صَفْعِ الشِّيْشَكْلِي بِعددٍ مِنَ الأَيَّامِ.
الفرقةُ العسكريَّةُ التي كانَ يَتَرَأَّسُهَا الشَّيخُ أَبو طلال سُلطان كَنْج أَبو صالح كانتْ واحدةً مِنَ فرقَتَيْنِ عسكريَّتَيْنِ تَرَأَّسَهُما المرحُومُ الرَّائِدُ شكيب وهَّاب مِن لُبنان، الفرقةُ الثَّانيةُ كانتِ الفرقةَ التي كانتْ تُعْرَفُ بالاسمِ "فَوْجُ جبلِ العرب". وكانَ الرَّائِدُ شكيب وهَّاب قد اتَّخَذَ مِن منطقةِ شفاعمرُو مَرْكِزًا لقُوَّاتِهٍ خلالَ تلكَ الحرب. هذِهِ الفِرَقُ، أَوِ المَفَارِزُ، كانتْ تَتْبَعُ لِلِواءِ اليَرْمُوكِ الثَّاني الذي كانَ رئيسُهُ المُقَدَّمُ أَديبُ الشِّيْشَكْلِي، وهذا الِّلِواءُ كانَ أَحدَ الأَلويةِ العسكريَّةِ التي منها كانَ يتكوَّنُ "جيش الإِنقاذ" الذي ترأَّسَ قيادَتَهُ العُليا العامَّةَ فوزي القَاوُقْجِي. وكانَ الشِّيْشَكْلِي قد دَخلَ إِلى البلادِ في مَطْلَعِ شهرِ كانُونٍ الثَّاني مِن نفسِ العامِ، وكانَ معَهُ جُنُودٌ دُرُوزٌ كثيرونَ مِن سُوريا.
حدَّثني المرحُومُ الشَّيخُ مَزْيَد فارس أَبو صالح قائِلاً: "مُنذُ البدايةِ اكتَشَفْنَا النَّزْعَةَ الاستِبدادِيَّةَ عندَ الشِّيْشَكْلِي، ومُنذُ البدايةِ أيضا شَعَرْنَا أَنَّهُ لا يحُبُّنا، ولكنَّ هذا الأَمرَ الأَخيرَ لم يكُنْ يهُمُّنا في قليلٍ أَو كثيرٍ، لأَنَّنا لم نقدِمْ إِلى فلسطينَ مِنْ أَجلِ أَن نحظَى بحُبِّ الشِّيْشَكْلِي، وكانَ فظًّا ولئيمًا مَعَنا، وبالنِّسبةِ لنا هذِهِ المسأَلةُ كانتْ أَمرًا مُختلِفًا تمامًا، فنحنُ لم نكُنْ لِنَسْمَحَ للشِّيْشَكْلِي، وَلا لِأَيٍّ كانَ أَنْ يظلُمَنا أَو أَن يحتقِرَنا، فقرَّرْنا أَنْ نذهبَ إِلى يِرْكا، وذهبْنا إِلى هناكَ، ودخلنا إِلى منزلِ "الخال"، وكانَ عندَهُ حينَما دَخَلْنا عددٌ مِنْ أَعِيَانٍ يِرْكا، وشَرَحْنا لهُم طبيعةَ علاقتِنا مَعَ الشِّيْشَكْلِي، وتَشَاوَرْنا مَعَ بعضٍ فيما يجبُ أَن نفعلَ، وكيفَ ينبغِي أَن نتصرَّفَ، فأَكَّدَ لنا الحاضِرونَ أَنَّ سكَّانَ يِرْكا يقفونَ إِلى جانِبِنَا وَأَنَّهُم مُستعدُّونَ أَن يُعاقِبُوا الشِّيْشَكْلِي على ما صَدَرَ منهُ بِحقِّنا، مَهْمَا كَلَّفَ الأَمرُ، ولكنَّهُم يُفَضِّلُونَ أَن نُعاقِبَهُ نحنُ بأَنفسِنا، لِئَلاَّ يُفُسَّرَ ذلك وكأَنَّنَا ضُعَفَاءُ وعاجِزُونَ عن مُعاقَبَتِهِ، فاتَّفقنا أَن نُهِينَهُ إِذا حاولَ أَن يُسِيءَ الأَدبَ مَعَنا مرَّةً أُخرى، وبعدَ انتِهاءِ الحديثِ خَصَّصُوا لنا الغُرفةً العُليا التَّابعةَ لِلمرحُومِ الشَّيخِ كامِل معدِّي، والموجُودةَ فوقَ بيتِهِ، مِن أَجلِ الإِقامةِ بِها". الغُرفة التي حَلَّ بها هؤلاءِ الجُنُودِ لا تزالُ قائِمَةً حتَّى اليوم، قُرْبَ الطَّرَفِ الجنوبيِّ لِساحةِ القريةِ، تلكَ السَّاحةُ التي يُطْلِقُ عليْها سكَّانُ يِرْكا إِسمَ "الحَارَة".
قبلَ قُدُومِ الشِّيْشَكْلِي إِلى يِرْكا بِمُدَّةٍ وجيزةٍ، وبعدَ انتهاءِ معركةِ الهُوشَه والكَسَايِر، وبعدَ انسحابِ القُوَّاتِ العربيَّةِ مِنَ جبهةِ القتالِ هناكَ، كانتْ قد حصلتْ مشادَّةٌ كلامِيَّةٌ قاسيةٌ بينَهُ وبينَ المرحُومِ شكيب وَهَّاب، وكانَ ذلكَ خلالَ لقاءٍ بينَهُما في منزلِ المرحُوم جبُّور جبُّور في شفاعمرُو، وكانَ مَعَ الشِّيْشَكْلِي خلالَ ذلكَ الِّلقاءِ اثنانِ مِنْ أَصدِقائِهِ وَمِنْ كِبارِ ضُبَّاطِ الجيشِ السُّوريِّ، أَصْبَحَ لَهُما فيما بعدُ، مِثلِ الشِّيْشَكْلِي نفسِهِ، دَوْرٌ كبيرٌ في تاريخِ سُوريا، هُمَا خليلٌ الكَلاَّسُ وأَكْرَمُ الحُورَانِيُّ، ولكنْ حينَما أَصبحَ الشِّيْشَكْلِي رئِيسَ الجُمهُوريَّةِ السَّوريَّةِ، تَبَيَّنَ لِلْحُورانيِّ أَنَّ صداقَتَهُ مَعَ الشِّيْشَكْلِي لا تفيدُهُ بشيءٍ، ولا تقيْهِ مِنْ شَرِّهِ، فَهَرَبَ مَعَ مِيْشِيْل عَفْلَق وصلاحِ الدِّيْنِ البيطار إِلى لُبنانَ، خوفًا مِنْ بَطْشِهِ وغَدْرِهِ. وقدِ اتُّهِمَ هَذانِ الرَّجُلانِ فيما بعدُ، مَعَ شخصيَّاتٍ سُوريَّةٍ أُخرى، مِنْ قِبَلِ بعضِ السُّوريِّيْنَ وأَيضا مِنْ قِبَلِ الحُكُومةِ المِصريَّةِ في حينِهِ، بالاشتراكِ في الانقلابِ العسكريِّ الذي أَدَّى إِلى انهِيَارِ الوحدةِ المِصرِيَّةِ – السُّوريَّةِ، بتاريخِ 8.3.1963، مُقابلَ الحُصُولِ على الرَّشْوَةِ.
خلالَ ذلكَ الِّلقاءِ حَمَّلَ الشِّيْشَكْلِي شكيب وهَّاب مسؤوليَّةَ الخسارةِ في تلكَ المعركةِ، مَعَ أَنَّ الشِّيْشَكْلِي كانَ يعلمُ جيِّدًا أَنَّ جُنُودَ شكيب وَهَّاب استبسَلُوا في القتالِ، وأَنَّ كثيرينَ منهُم قُتِلُوا هناكَ، ونحنُ نذكُرُ مِن بينِهِم بِهذِهِ المُناسبةِ المرحُومِيْنَ أحمد اليُوسف وفَضْلَ لويِس وجميلَ الصَّادِق ومَرْعِي جَميلة وابنَهُ يُوسف ويُوسف شَعْبان وسليمان أَبو رَعد وصالح شُوفانِيّة مِنْ شفاعمرُو، وفهد محمود مِن مجدل شمس، وسلمان رَزْمَك قويقِس (أَبو رَزْمَك) مِن يِرْكا، وحمد حمُّود من بيت جنّ، وفي تلكَ المعركةِ فَقَدَ المرحُومُ سلمان شحادة من الرَّامَةِ، وهو خالُ الشَّاعرِ سميحِ القاسمِ، إِحْدَى عَيْنَيْهِ. وقدِ اعتبرَ شكيب وهَّاب ومَنْ كانَ مَعَهُ مِن جُنُودٍ هذِهَ التُّهمةَ استفزازًا صارِخًا، فما كانَ مِن كمال وهَّاب، نجلِ شكيب وهَّاب، وكانَ هو الآخرُ جُنديًّا يقاتِلُ مَعَ والِدِهِ في جيشِ الإِنقاذِ، إِلاَّ وشَهَرَ مسدَّسَهُ وصَوَّبَهُ نحوَ الشِّيْشَكْلِي وأَرادَ أَن يُطْلِقَ الرَّصاصَ عليهِ، ولم يَمْنَعْهُ مِن ذلكَ إِلاَّ المرحُومُ جبُّور جبُّور، صاحبُ المنزلِ، والأَعِيَانٍ الآخرُونَ الذينَ كانُوا مُتَوَاجِدِيْنَ في منزلِهِ. ويبدُو أَنَّ هذِهِ الحادثةَ زادتْ مِن نقمةِ الشِّيْشَكْلِي على الدُّرُوزِ، ولا شكَّ أَنَّ الإِهانةَ التي لَحِقَتْ بِهِ في ذلكَ الِّلقاءِ كانتْ لا تزالُ عالِقَةً في بَالِهِ ورَاسِبةً في وِجْدَانِهِ عندما قَدِمَ إِلى يِرْكا، ولا شكَّ أَيضا أَنَّها كانتْ سببًا في تَهَوُّرِهِ مَعَ جُنُودِ الجُولانِ وإِقليمِ البِلاَّنِ الذينَ كانُوا مُتَوَاجِدِيْنَ عندنا في القريةِ حينَما أَتى لِمُقابلتِهِم، ذلكَ التَّهَوُّرُ الذي كانَ سببًا في تلكَ الصَّفْعَةِ التَّاريخيَّةِ التي تَلَقَّاها عندنا في ساحةِ القريةِ، ونحنُ نقولُ أَنَّهُ رُبَّما كانَ لِتلكَ الصَّفعةِ ولِلإِهانةِ التي رافَقَتْها دَوْرٌ في مَسْلَكِهِ العِدائِيِّ الشَّائِنِ تجاهَ دُرُوزِ سُوريا فيما بعدُ.
وما دُمْنا في الحديثِ عن دَوْرِ الشِّيْشَكْلِي في حربِ عامِ 1948، فنضيفُ ونقولُ أَنَّ هنالكَ مَنْ يَرَى أَنَّ الفَشَلَ النِّهائِيَّ لِلشِّيْشَكْلِي ولِقوَّاتِهِ في تلكَ الحربِ نتجَ عن فهمٍ خاطِئٍ مِن قِبَلِ الشِّيْشَكْلِي نفسِهِ لِدَوْرِهِ وَلِدَوْرِ قوَّاتِهِ في تلكَ الحربِ نفسِها، ونحنُ نَرَى أَنَّهُ مِنَ المُناسبِ أَن نُثبِتَ هُنا بعضَ ما تقولُهُ "الموسُوعةُ الفلسطينيَّة" في هذا الأَمرِ.
هكذا تقولُ تلكَ الموسُوعةُ:
"الواقعُ أَنَّ قائِدَ قطعاتِ الإِنقاذِ في منطقةِ الجليلِ، المُقَدَّمَ أَديب الشِّيْشَكْلِي، كانَ يحملُ مفهومًا آخَرَ؛ فَمَهَامُّ قُوَّاتِهِ تقويةُ معنويَّاتِ الأَهْلِيْنَ في فلسطينَ، ومعرفةُ مقدرةِ القُوَّاتِ الصُّهيُونيَّةِ المُسلَّحةِ في فلسطينَ، واختبارُ موقفِ سلطاتِ الانتدابِ البريطانيِّ بِالنِّسبةِ إِلى الأَعمالِ العسكريَّةِ التي تحدُثُ بين العربِ واليهُودِ. أيْ كانَ جيشُ الإِنقاذِ في نَظَرِ الشِّيْشَكْلِي مُجَرَّدَ طليعةٍ للجُيُوشِ العربيَّةِ، ومُهِمَّتُهُ لا تتعدَّى الاستطلاعَ بالقتالِ لاختبارِ قوَّةِ العدوِّ ومساعدةِ الصَّديقِ على الصُّمُودِ حتَّى تحينَ السَّاعةُ المُناسبةُ. ورُبَّما كانَ هذا الَّلبْسُ السَّببَ الرَّئيسَ الذي جَعَلَ هذا الجيشَ يَقْصُرُ أَعمالَهُ على معارِكَ محليَّةٍ تفتقرُ إلى الهدفِ الاستراتيجيِّ، ويكتفي بأهدافٍ تكتيكيَّةٍ محدودةٍ لم تستطعْ أَنْ تُؤَثِّرَ على الوضعِ العامِّ حتَّى عندَ نجاحِهَا".
وفي أَحدِ أَيَّامِ شهرِ أَيَّار عام 1948، قَدِمَ الشِّيْشَكْلِي إِلى يِرْكا، رُبَّما مِن مركزِ قيادَتِهِ بِبلدةِ تَرْشِيْحا، مِن أَجلِ مُقابلةِ جُنُودِ الفرقةِ العسكريَّةِ المُتَوَاجِدَةِ في القريةِ، وعندما وصلَ إِلى ساحةِ القريةِ سأَلَ عن مكانِ تواجُدِ هؤلاءِ الجُنُودِ، فأُخْبِرَ بذلكَ، فما كانَ منهُ إِلاَّ أَن وقفَ مُقابِلَ الغُرفةِ التي كانَ هؤلاءِ الجُنُودُ، الذينَ كانَ قَدْ أَسْلَفَهُمُ الإِسَاءَةَ مُنذُ عَهْدٍ قريبٍ، مُتَوَاجِدِيْنَ بِها، وصَرَخَ فيهِم بصوتِ عالٍ آمِرًا أَن ينزِلُوا كُلُّهُم حالاً لِمقابلَتِهِ، فأَجابَهُ واحِدٌ مِنهُم قائِلاً أَنَّهُم َيرفُضُونَ أَوامِرَهُ، وطلبَ منهُ أَنْ يصعدَ هو بنفسِهِ إِليهِم إِذا كانَ يُريدُ أَن يُقابِلَهُم، فعادَ الشِّيْشَكْلِي وَصَرَخَ فيهِم آمِرًا مرَّةً أُخرى أَن يهبِطوا إِليهِ، فأَجابَهُ ذلكَ الجُنديُّ قائِلاً: "إِبْقَ في مكانِكَ، وسَوْفَ نَنْزِلُ إِليكَ ونُرِيْكَ ماذا سَوفَ نَفْعَلُ بِكَ !"، ثمَّ نزلَ عددٌ مِنَ الجُنُودِ إِلى ساحةِ القريةِ، وتقدَّمَ أَحَدُهُم، وكانَ المرحُوم الشَّيخُ أَبو طلال سُلطان كَنْج أَبو صالح مِنْ بلدةِ مجدل شمس، وكانَ، كما ذَكَرْنا، رئيسَ الفرقةِ العسكريَّةِ، نحوَ أَديبِ الشِّيْشَكْلِي، وَصَفَعَهُ صفعةً قويَّةً أَوقعَتْهُ حالاً على الأَرضِ، ثمَّ انتزَعَ منهُ مُسَدَّسَهُ وَأَرادَ أَن يقتلَهُ بِرَصَاصَاتٍ مِنهُ، ولكنَّ الحاضِرِينَ في ساحةِ القريةِ منعُوهُ مِن ذلكَ وحَمَواِ الشِّيْشَكْلِي، قائِلينَ "هذِهِ المَرَّة سَمَاح، يكفيهِ ما تَلَقَّى !"، ولا شكَّ أَنَّ هؤلاءِ الذينَ حَمَوَا الشِّيْشَكْلِي يومَهَا ما كانُوا يدرُوْنَ ما كانَ يجُولُ في خاطِرِهِ وما كانَ يُضْمِرُ لسُوريا ولِلدُّرُوزِ، ولو كانُوا فعلاً يدرُوْنَ ذلكَ، رُبَّما كانَ للتَّاريخِ مَسَارٌ آخَرُ. ونظرًا لأَنَّ البُقْعَةَ التي وقعَ بِها الشِّيْشَكْلِي كانتْ حينَها مُوحِلَةً، فَتَلَطَّخَ مِعطفُهُ بِالوَحْلِ، فأُدْخِلَ إِلى فِناءِ بيتِ "الخَال"، وهناكَ قَدَّمُوا لهُ دَلْوًا مِنَ الماءِ وقطعةَ قِماشٍ وصابُونًا كي يُنظِّفَ مِعطَفَهُ مِنَ الوحلِ وباقي الأَوساخِ التي عَلِقَتْ بِهِ، وحَدَّثَنِي المرحُومُ الأُستاذُ سليمان علي معدِّي، وكانَ، كما ذكرْنا شاهدَ عِيَانٍ على ذلكَ الحادثِ، قائِلاً: "كانَ الشِّيْشَكْلِي يتصرَّفُ كَمَنْ فَقَدَ الوَعْيَ، وكانَ يرُوحُ ويأْتِي في فِنَاءِ بيتِنَا كالمجنُونِ، وكانَ يرتَجِفُ مِنَ الغَيظِ وَالكَيْدِ، وكانتْ تعابيرُ وجهِهِ تتأَرْجَحُ بينَ الهَلَعِ وبينَ الحِقدِ، وبينَ البُؤسِ وبينَ الضَّغِينَةِ، وسمعتُهُ يُتَمْتِمُ بصوتٍ مكبُوتٍ ومخنوقٍ يكادُ لا يُسْمَعُ، ويقولُ: "بيجِيكُوا يُوم يا درُوز !".
وقدْ حَلَّ فعلاً ذلكَ اليومُ الذي انتظَرَهُ الشِّيْشَكْلِي وَتَمَنَّاهُ، وحُلُوْلُهُ كانَ رُبَّما أَسرعَ مِمَّا قَدَّرَ وتَوَقَّعَ، فَبَعْدَ أَنِ وَضَعَتِ الحربُ أَوْزارَها وعادَ الشِّيْشَكْلِي إِلى سُوريا، اشتركَ في سلسلةٍ مِنَ الانقلاباتِ العسكريَّة أَوصَلَتْهُ في نهايةِ الأَمرِ، وخلالَ مُدَّةِ قصيرةٍ، إِلى رئاسةِ الجُمهوريَّةِ السَّوريَّةِ، فَاستغَلَّ منصبَهُ الجديدَ وانتقمَ بِكُلِّ ما أُوْتِيَ مِنْ كَيْدٍ وحِقْدٍ وعُنْفٍ مِنَ الدُّرُوز. في بدايةِ الأَمرِ اشتركَ الشِّيْشَكْلِي مَعَ حُسنِي الزَّعيمِ بتاريخِ 29.3.1949 في أَوَّلِ انقلابٍ عسكريٍّ في تاريخِ تلكَ البلادِ وفي تاريخِ الدُّولِ العربيَّةِ كُلِّها، ثُمَّ مَعَ سامي الحِنَّاوِي في الانقلابِ الثَّاني بتاريخِ 14.8.1959، ثُمَّ مَعَ هاشمِ الأَتَاسِي في الانقلابِ الثَّالثِ بتاريخِ 19.12.1949، ثُمَّ كانَ مُهَنْدِسَ الانقلابِ الرَّابعِ بتاريخِ 28.11.1951، وبعدَ هذا الانقلابِ حَكَمَ البلادَ أَوَّلاً حُكْمًا مُؤقَّتًا لِيَوْمَيْنِ وَحِيْدَيْنِ، بينَ التَّارِيخَيْنِ 2.1.1951 و 3.1.1951، ثُمَّ حَكَمَهَا حُكْمًا مُطلَقًا لِمُدَّةِ ثمانِيَةِ أَشهُرٍ تقريبًا بينَ التَّارِيخَيْنِ 11.7.1953 و 25.2.1954، وخلالَ هذِهِ الفترةِ قَبَضَ الشِّيْشَكْلِي على زِمَامَ الأُمورِ كُلِّيًّا في سُوريا، فَفَرَضَ أَنظِمَتَهُ الدِّكتاتُورِيَّةَ، ونَشَرَ أَحْكَامَهُ التَّعَسُّفِيَّةَ، وأَلْغَى الأَحزابَ السِّياسيَّةَ، وكَبَتَ الحُرِّيَّاتِ الشَّخْصِيَّةَ، وضايَقَ الأَهْلِيْنَ، وأَبْعَدَ حَتَّى المُقَرَّبِيْنَ، وأَفْرَطَ في الاعْتِقالاتُ، وفَرَضَ رَقَابَةً صارِمَةً على الصَّحافةِ والمطبُوعاتِ، فكَثُرَتْ في سُوريا المُظاهَرَاتُ، وَعَمَّتِ الاحتِجاجاتُ، وتَفَشَّتِ الإِضراباتُ.
ولكنَّ الشِّيْشَكْلِي لم يَكُنْ يدرِي، لا عندَما حَلَّ ذلكَ اليومُ الذي كانَ يَتَرَقَّبُهُ ويَتَمَنَّاهُ وانتقمَ فيهِ مِنَ الدُّرُوز، ولا قبلَ حُلُوْلِهِ، عندمَا تَفَوَّهَ بِتلكَ الكلماتِ البائِسَةِ في يِرْكا، ورُبَّما أَيضًا حتَّى لا في أَسْوَإِ أَحلامِهِ، أَنَّ حُلُوْلَ ذلكَ اليومِ الذي طالَمَا تَاقَتْ نفسُهُ إِليْهِ سوفَ يكونُ سَبَبًا في حُلُوْلِ أَيَّامٍ كثيرةٍ أُخرَى كُتِبَ عليها أَن تكُونَ أَيَّامًا كارِثِيَّةً بالنِّسبةِ لَهُ نفسِهِ، أَوَّلُها كانَ يومَ ثارَتْ سُوريا ضِدَّهُ وَانْقْلَبَتَ عليْهِ، وآخِرُها وأَقْسَاهَا عليْهِ كانَ يومَ قَتَلَهُ المرحُومُ نَوَّاف غَزالة في البرازيل، انتقامًا على الجَرائِمِ التي ارتَكَبَها بِحقِّ الدُّرُوز، فَالشِّيْشَكْلِي، وهوَ صاحِبُ القولِ المَذْمُوْمِ: "أَعدائِي كَالأَفْعَى، رأْسُهَا في الجبلِ (أَي جبلُ الدُّرُوزِ)، وبطنُها في حِمْصٍ، وهي تَمْتَدُّ إِلى حَلَب"، وَإِستِنادًا إِلى ذلكَ القَوْلِ الفاسِدِ وَعَمَلاً بِهِ، اعتدَى على جبلِ الدُّرُوزِ الأَعْزَلِ وَقَصَفَهُ بالطَّائِراتِ والمُدَرَّعاتِ، وبِالمَدَافِعِ والرَّشَّاشَاتِ، وقُتِلَ مِنْ سكَّانِهِ حوالي 300 نفرٍ، واعْتَقَلَ مَنْصُوراً ونَاصِرًا نَجْلَيْ سلطانُ باشا الأطرش، وعندما أَفْرَجَ عن مَنْصُورٍ في مُحاولةِ فاشِلَةٍ مِنْ طَرَفَهِ لاسترضاءِ الباشا والتَّقَرُّبِ مِنهُ، قالَ سلطانٌ جُملَتَهُ المَأْثُورَةَ والبلِيغةَ: "المطلُوبُ مِنَ الشِّيْشَكْلِي ليسَ الإِفْراجُ عن مَنْصُورٍ، وإِنَّما الإِفْراجُ عنْ سُوريا". أَمَّا الباشا نفسُهُ، رمزُ التَّضحيةِ والحُرِّيَّةِ والاستقلالِ في سُوريا، وأَحدُ كِبارِ وأَوائِلِ الدَّاعِيْنَ إِلى التَّحَرُّرِ مِنَ الحُكْمِ الأَجنبيِّ في العالَمِ العربيِّ، ومِنْ أَبْسَلِ المُناضِلِينَ مِنْ أَجلِ ذلكَ الهدفِ، فَنَزَحَ مُؤقَّتًا إِلى الأُردنِّ، ولم يرجعِ إِلى الجبلِ إِلاَّ بعدَ طَرْدِ الشِّيْشَكْلِي نهائِيًّا مِنْ سُوريا، بتاريخِ 25.2.1954. في ذلكَ التَّاريخِ خُلِعَ الشِّيْشَكْلِي وهَرَبَ إِلى لُبنانَ، ولكنَّ مُكُوثَهُ بِلُبنان كانَ قصيرًا، لأَنَّ المرحُومَ كمال جُنبلاط تَهَدَّدَهُ بِالقتلِ إِذا بقيَ هناكَ، فَهَرَبَ مِنْ لُبنانَ سريعًا إِلى السُّعُوديَّةِ، ومِنْ السُّعُوديَّةِ هَرَبَ إِلى فرنسا، ومِنها إِلى البرازيلِ، وهناكَ عاشَ في التَّكَتُّمِ والخَفَاءِ، ولكنَّ ذلكَ لَمْ يُجْدِهِ نفعًا، ففي تلكَ البلادِ، وكما يشهدُ التَّاريخِ، قتلَهَ المرحُوم نَوَّاف غزالة بتاريخِ 27.9.1964، انتِقامًا على غَدْرِهِ بِالدّرُوزِ.