كان صوتٌ فتي يصدر من الغرفة المجاورة يُردّد وراء عتريس الحسين الكلمات نفسها التي يسوقها الأخير في وصف ما جرى لشقيقه الكبير محمود الذي أعدمه تنظيم «داعش» عندما توجه من مدينته طرابلس في شمال لبنان إلى مدينة الرقة السورية ليحاول استعادة أولاده الأربعة الذين التحقوا بالتنظيم.
الصوت كان أشبه بصدى لصوت عتريس. ثوانٍ قليلة يتوقف فيها الرجل عن الكلام بعد سماعه صدى صوته، ثم يكمل من دون أن يُبطئ الصدى جريان كلامه.
قال أن زوجة شقيقه محمود السابقة وأم أولاده الثمانية كانت تُحرض أولاده عليه، وهي من دفعهم للوشاية به للتنظيم عندما وصل إلى الرقة.
وما إن أنهى جملته هذه حتى التقطها صاحب الصوت الغامض وكررها بقوة النطق نفسها، تلك التي كان يدفع بها عتريس كلماته لكي تخرج من فمه.
وكان خبر إعدام «داعش» شقيق عتريس قد ورد على الشكل الآتي: «أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) إعدام اللبناني محمود الحسين (٥٠ عاماً) في الرقة، بعدما توجه إلى معقل التنظيم في سورية لاسترجاع ولده يحيى (١٨ عاماً) إلى جانب ابنته اللذين التحقا بالتنظيم قبل 6 أشهر».
لكن الصحيح والثابت أن يحيى بن محمود كان اصطحب معه إلى الرقة السورية ثلاثاً من شقيقاته، وأن الوالد توجه إلى الرقة ليعيد بناته على ما قال شقيقاه عتريس وخالد المقيمان في منطقة المنكوبين شرق مدينة طرابلس.
منازل أشقاء محمود بنيت على أرض ينحدر فيها «المنكوبين» نحو المدينة، فيما يرتفع فوقها مسجد النور الذي ينشط فيه خطيب «سلفي جهادي» في الدعوة إلى القتال في سورية. والدرج غير الإسمنتي وغير المتقن البناء والمتعرج والمفضي إلى منازل المنحدر يبث صقيعاً في أقدام متسلقيه.
على عتريس، بعد أن أصابه السكري باكراً، إذا ما أراد أن يقصد ساحة المنكوبين أن يخرج من منزله ويواصل هبوطه عبر طريق وحلي إلى سفح التلة، ومن هناك حيث يُلاقي الطريق المعبد يُوقف سيارة تعيده إلى الساحة غير البعيدة سوى أمتار قليلة عن منزله.
محمود شقيق عتريس الكبير وقتيل «داعش» كان غادر مع عائلته منطقة المنكوبين بعد أن عمل بالتجارة وصار في وسعه أن يستأجر منزلاً في منطقة القبة، الموازية للمنكوبين. والأشقاء حين يتحدثون عن شقيقهم القتيل يُشيرون إلى أنهم لم يكونوا على صلة دائمة به. فهو غادر المنكوبين منذ نحو 18 عاماً إلى القبة، ثم عاد وانفصل عن زوجته وتزوج بأخرى وأقام في منطقة الميناء. لكن الصلة المتقطعة بالشقيق الأكبر لم تنجم عن خصومة، إنما عن مراكمة عادية ويومية لقطيعة يُحدثها بُطء ثقيل يُذكر بصقيع الدرج المفضي إلى منزل عتريس.
قال عتريس أن زوجة شقيقه القتيل هي من اصطحب بناته الثلاث إلى تركيا لملاقاة ابنها يحيى الآتي من الرقة للقاء أمه واصطحاب شقيقاته إلى عاصمة «الخلافة» لتزويجهن بأمراء في التنظيم. عادت الأم إلى طرابلس من دون بناتها، فيما اتصل يحيى بوالده وأخبره بأن شقيقاته انتقلن معه للعيش في كنف «الخلافة».
خالد شقيق محمود الأصغر يوافق شقيقه أن الزوجة الحموية، غير الطرابلسية، هي من سلم بنات شقيقه إلى شقيقهم. وخزّن خالد في هاتفه صورة غير واضحة لشقيقه قال أنها لحظة تنفيذ حكم قطع الرأس به، وأن يحيى هو من أرسل الصورة، وهو حضر مع شقيقاته الثلاث تنفيذ حكم قطع رأس والدهم. وحين تظهر على وجه خالد ملامح غضب يبدو سابقاً على إعدام شقيقه، يُخرج من جيبه محفظة صغيرة وضع فيها صورتين واحدة لأمين عام «حزب الله» حسن نصرالله، وأخرى لخليل عكاوي، والأخير زعيم لجماعة طرابلسية كان قتله الجيش السوري في أواسط ثمانينات القرن الفائت، ويشرع بالقول أن بلدية طرابلس رفضت إعطاءه هو وزوجته مساعدات وأدوية بحجة أنهما لم يُنجبا، ويضيف: «وكأن من لا يُنجب لا يمرض».
يشير الحكم الرقم 9 الصادر عن ديوان القضاء والمظالم في «الدولة الإسلامية»، والذي ينص على إعدام محمود الحسين (أبو أحمد اللبناني)، إلى أنه: «أثبت الشهود سب المدعى عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وذلك بشهادة رجل وثلاث نساء، وحيث إن شهادة المرأة لا تُقبل في الحدود، فإن هذه الشهادات تؤخذ كقرينة على سوء حال المدعى عليه… لذا، حكمت بقتله». إذاً، الشهود الذين لم يُشر القرار إلى أسمائهم هم رجل وثلاث نساء، أي عدد أولاد محمود الملتحقين بـ «داعش» نفسه، وهو ما يُعزز فرضية أشقاء قتيل آل الحسين عن أن الأبناء هم من وشوا بوالدهم.
لكن أحمد، الابن البكر للقتيل يدفع عن أشقائه وشايتهم بوالدهم، وهو إذ ينفي حضورهم واقعة إعدام والده، يؤكد أن إعدامه تم رمياً بالرصاص ولم يُقطع رأسه. ويروي كيف عرف هو بحقيقة موت والده في الرقة، ويقول: «عندما وصل أبي إلى الرقة علم بأمره أمنيو تنظيم الدولة واعتقلوه لأنهم وجدوا على هاتفه صورة لرئيس الحكومة تمام سلام. وبعد وقت تواصلت أنا مع شقيقي يحيى وسألته عن الوالد فأجاب بأنه موقوف، وبعد ذلك وصلني خبر بأنه أعدم فسألت يحيى فأرسل إلي قرار الإعدام وقال أنه نُفذ».
ويكرر أحمد أن والده أعدم رمياً بالرصاص، وليس عبر قطع رأسه على ما توحي الصورة التي بحوزة عمه. يشعر الشاب بأن في ذلك بعض العزاء، وبعض التخفيف من ذنب إخوته المقيمين هناك في الرقة.
بعد أن قرأ أحمد القرار خلص إلى أنه صدر عن قاضٍ «لا يملك ثقافة شرعية»، فكيف يستقيم أن تكون الدعوى أمنية والتهمة شتم النبي؟! وبعد أن نفى الكلام عن أن شقيقه يحيى هو من استدرج والده إلى الرقة، وأكد أنه ذهب بملء إرادته، كشف أن السبب الفعلي لتوجه الوالد إلى الرقة هو أن أخباراً وصلته عن أن إحدى بناته خُطبت إلى أحد «شرعيي» التنظيم وأن الأخير يُسيء معاملتها، فتوجه إلى الرقة لنجدة ابنته.
وهنا تبدأ قصة أخرى لإعدام محمود الحسين في الرقة، مختلفة عن القصة التي رواها أشقاء القتيل. فـ «شرعي داعش» الذي خطبت الشابة إليه، وعاملها بالسوء على ما قال شقيقها، هو شاكر الشهال ابن مدينة طرابلس وابن شقيق الداعية السلفي الشهير الدكتور حسن الشهال. تعرف شاكر إلى ابنة محمود في الرقة وهناك خطبها من شقيقها.
وكان شاكر غادر منزل ذويه في طرابلس في عام 2014 ليلتحق بـ «داعش» في الرقة، ولم يكن حينذاك قد بلغ الحادية والعشرين من عمره. وحينذاك، قال عمه الداعية حسن الشهال لـ «الحياة» أن الشاب غادر طرابلس إلى الرقة بعد «واقعة إحباط» أصابته. فهو كان على وشك الزواج، إلا أنه اختلف مع والد خطيبته وفسخ الأخير الخطوبة.
يؤكد أحمد أن قرار إعدام والده يقف وراءه شاكر الشهال، ذاك أن الوالد وعندما عرف أن شاكر يعامل ابنته بالسوء وقبل أن يُغادر لنجدتها كان توجه غاضباً إلى منزل أهل شاكر في منطقة القبة في طرابلس وهدد العائلة. وقال أحمد أن إعدام والده كان انتقاماً من شاكر لعائلته.
«الحياة» اتصلت بحسن الشهال وسألته عن حقيقة مهاجمة محمود منزل شقيقه في منطقة القبة، فنفى حصول الواقعة، وقال أنه سمع أن شاكر خطب ابنة محمود الحسين، لكنهما انفصلا والواقعة حصلت قبل شهور من توجه محمود الحسين إلى الرقة. علماً أن خطيبة الشهال السابقة عادت وتزوجت بأردني عضو في «داعش» قبل أن يتوجه والدها إلى الرقة، وهو ما يُضعف رواية أحمد عن أن والده توجه إلى الرقة لنجدة ابنته بعد أن علم أن خطيبها الشهال يعاملها بالسوء. لكن أحمد يؤكد أن والده تعرض لمكيدة أودت به إلى الرقة.
لا ينفي أحمد ما أشار إليه بعض عارفي والده عن أن الأخير كان عنيفاً في علاقته بأفراد عائلته، لكنه يقول أن عنف الوالد لم يكن موجهاً إلى العائلة في شكل خاص، إنما هو طبيعة في الرجل، وهو ليس عنفاً غريباً عن طبائع الآباء في هذه المنطقة. ولفت إلى أن يحيى، الابن الأصغر كان أقل أفراد العائلة عرضة لهذا العنف، ذاك أن الوالد كان يُكن له عاطفة خاصة.
الصورة المرتفعة على جدار في ساحة المنكوبين، تضم عدداً من «شهداء المنطقة» وهم يحملون سلاحاً. الصورة ليست لشباب قتلوا في سورية، على رغم أن المنكوبين «قدمت لسورية أكثر من ثلاثين شهيداً». هؤلاء الفتية قتلوا أثناء الاشتباكات التي كانت تشهدها طرابلس بين منطقتي بعل محسن والتبانة، وكانت المنكوبين «تُنجد التبانة عندما تشعر الأخيرة باشتداد القبضة عليها. وبعد توقف الاشتباكات منذ ما يزيد عن السنة ارتخت مناطق القتال وأفسح السلام المكان للفقر والبرد.
«قتيل داعش» محمود الحسين كان غادر المنكوبين مع عائلته قبل أكثر من 17 عاماً، لكن ذلك لا يعني أنه كف عن كونه من المنطقة. الحكايات التي تُنقل عن يحيى، ابنه الصغير، ومصطحب الشقيقات إلى الرقة السورية، تتصل جميعها بمنطقة المنكوبين. يشير السكان إلى علاقة قرابة تربط بين عائلة محمود الحسين وبين آل ديب، العائلة التي خرج من أبنائها عدد كبير من عناصر «السلفية الجهادية» بأجيالها الثلاثة، وقتل منهم أكثر من خمسة في معاركها بين لبنان وسورية. أحمد الابن البكر لمحمود الحسين نفى في البداية وجود قرابة، ثم عاد وأشار إلى قرابة بعيدة بين العائلتين.
هذا التردد بين نفي القرابة ثم الإقرار بها، أو في الإشارة إلى عنف الأب وعاطفته في آن، هو جزء من طبيعة الأشياء هنا في المنكوبين. ذاك أن أحمد المرتبط بالمنكوبين ولادة ثم خبرة وتجربة، لم يزرها منذ أكثر من عشر سنوات، كما أكد لـ «الحياة». والعيش في المنكوبين هو صدمة متواصلة وغير منقضية يجهد من تصيبهم إلى التنصل من تبعاتها العادية، كالعلاقات القرابية والانفعالات العاطفية، وأشكال العنف العادي والجاري في حياة السكان جريان أكلهم ونومهم وفقرهم.
لا يد لصهر العائلة الداعية عمر بكري فستق باختيار يحيى «داعش» خياراً والرقة وجهة. لا بل إن أحمد يشير إلى أن يحيى كان غادر إلى الرقة في عام 2014، وبكري هو من أقنعه بضرورة العودة. وعمر بكري الذي يقضي حكماً بالسجن في لبنان لمدة ست سنوات بتهمة تأسيس خلايا مسلحة، يبدو في كلام أحمد «ليبرالي العائلة»، إذ لطالما تولى التخفيف من غلواء ردايكالييه.
لكن تزويج محمود الحسين ابنته الكبرى بعمر بكري فستق، أشار إليه أشقاء الرجل بصفته سبباً لتطرف العائلة. ويقول عتريس أن بكري هو من أحدث تحولاً نحو التطرف في حياة الأسرة. ويكشف أن بكري لم يكتف بزواجه بالابنة الكبرى ربى، إنما أتى بصهر آخر للعائلة، وهو سوري وناشط في «جبهة النصرة»، وأخذ زوجته انتصار الحسين إلى تركيا وأنجب منها طفلاً ثم انفصل عنها وسافر إلى مكان مجهول. وانتصار وبعد طلاقها من زوجها الأول، تحول منزلها في تركيا إلى نقطة لقاءات العائلة ونقطة انطلاق نحو الرقة السورية. في منزلها التقى يحيى بشقيقاته، واصطحبهن واصطحبها معهن إلى منزله في الرقة.
الحديث عن النساء، سواء كن زوجات أم شقيقات، في مجتمع السلفيين الجهاديين، وما يتضمنه خطابها من عبارات جافة وقاسية، لا يعكس المضامين «الأممية» التي تنطوي عليها علاقة «داعش» بنسائه. اقتلاعهن من بيئاتهن وعائلاتهن، وتزويجهن على نحو سهل، برجال غرباء، ثم تطليقهن وإعادة تزويجهن، كل هذا لا يجرى في سياق من التعنيف الصافي. ثمة أمزجة وراء هذه الرشاقة، وحماسة الخروج من وطأة مجتمعات الآباء القساة. وثمة حرية ما أيضاً، وانعتاق وتجربة عبودية مختلفة. فـ «رقة داعش»، مدينة الجيل الواحد المنتظم بأخلاق لم يرثها عن أحد. على هذا النحو أقدم يحيى على تزويج شقيقاته الثلاث، الأولى بعد طلاقها من عضو «جبهة النصرة» زوجها بمحمد الذهب وهو لبناني ومقاتل في «داعش»، والثانية خطبها في البداية لشاكر الشهال، ثم انفصل الأخير عنها ليعود ويزوجها بالأردني عبدالمجيد أبو عزام، والثالثة كانت أيضاً من نصيب أردني آخر في «داعش» هو محمد عربيات.
في الشهر السابع من عام 2015، وصل محمود الحسين إلى مدينة الرقة بهدف استعادة بناته الملتحقات بالأممية الجديدة، ومعتقداً أن سلطة الأب التي دأب على ممارستها في طرابلس ستسعفه بالعثور على بناته الثلاث.
وفي الرقة وجد الرجل نفسه في مدينة عالمية لا مكان فيها لسلطته الموضعية والمركزة على نحو ضيق بعائلته التي لطالما عبث فيها في طرابلس. لم يتوقع أن بناته كففن عن كونهن بناته، وأن ابنه يحيى انضم إلى لحمة أفقية لا مكان فيها لأب عادي. فأصدر القاضي حكمه، ودفن الأبناء أباهم القديم في «جبانة الكفار» في الرقة.