بعد أن آلت المعطيات في الحالة السوريّة إلى درجة من التعقيد التي يصعب معها الوصول إلى تصوّر واضح حول الكيفية التي قد تخرج فيها سوريا من واقعها الذي يتغاير يوما بعد يوم ، اصبح الثبات على تصوّر واحد للنهاية يعتبر ضربا من الوهم ، أو حتى من الغباء ، وخصوصا مع وجود مشروعات كبيرة تتصارع بكل ما أوتيت من قوة لتضمن أن تُحسم كل الأمور لمصلحتها ، أو بما يتناسب مع رؤيتها ، الأمر الذي يقودنا إلى نوع من التصنيف لهذه المشروعات ، حسب ماهيتها أولا ، ومن ثم حسب الجهات التي تقف ورائها ثانيا ، وحسب فاعليتها على الأرض من حيث القدرة على إحداث تغيير واضح وحقيقي ، ثالثا ..
وإذا كنا نتوخى الدقة فعلينا أن لا نغفل التفوق الذي تملكه المشروعات المسلحة التي تحضى بالدعم الدولي الأكبر ، وليس المقصود بالدعم الدولي الأكبر هو توافق مجموعة دول على دعمه .. لأنه من الممكن لدولة واحدة أن تصب دعما للجهة التي تساندها يعادل أضعاف ما يقدمه المجتمع الدولي برمته لباقي المشروعات .. ومثالنا هو الدعم الروسي لمشروع بقاء النظام – مثلا- بالشكل الذي يحفظ للروس مكانتهم المميزة على شاطئ المتوسط ضمن حالة الصراع الدولية على ما يسمى ( الحزام الأوراسي ) وكذلك الدعم الإيراني للنظام بالطريقة التي تضمن المزيد من تمدد مشروع الهلال الشيعي له ، وبالآلية التي تحفظ لإيران مكانتها ووزنها على طاولات التفاوض العالمية بما يتعلق بالملف النووي الخاص بالحلم الإيراني الحالي . ومع هذين المثالين نكون بشكل غير مباشر قد أبرزنا المشروع الأول ( بقاء النظام ) الذي يحتل الصدارة في العلاقات الدولية الممتدة بين إيران وروسيا والصين والعديد من الدول العربية ليطال كل منظومة دول البريكس التي تنظر للمسألة السورية أنها ملف اختباري هام لقدرتها على التعاون والتحدي في هذا العالم المُقدِم على إعادة تشكيل واضحة .
ومن هنا يمكننا التوصل إلى مسلّمة حقيقية مفادها أن المشاريع الأقوى المطروحة هي الناتجة عن تفاعل القوى الخارجية بالشكل المؤدي للمزيد من القدرة على التحكم بالتاريخ والمستقبل .. ولا تنطبق هذه المسلّمة أبدا على ما يسمى ب ( دول أصدقاء الشعب السوري ) التي عقدت مؤتمراتها تحت راية نصرة الثورة .. لأنها كانت في هذا المسلك إنما تراعي مصالحها الدبلوماسية بامتلاك أوراق ضغط قابلة للبيع والمساومة في المجتمع الدولي ، أكثر بكثير مما كانت تهتم لالتزامها المُعَنوَن بنصرة الشعب السوري ، حيث لم تنفذ منه سوى ما يتعلق ببعض الالتزامات الإنسانية التي لا يمكن أن تساهم بتغيير موازين القوى على الأرض أبدا ، إنما ينطبق فقط على القوى الدولية المؤثرة فعلا على الساحة .. فبينما يمكننا مباشرة وضع روسيا والصين وإيران مع الدول الداعمة لمشروع بقاء النظام ولكل المشاريع التي من شأنها تكريس بقاءه .. يمكننا بالمقابل وضع الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والسعودية وقطر بين الدول التي تدعم المشاريع التي وإن اختلفت دوافعها ورؤيتها ووسائلها ، إلا أنها متفقة على وجوب إسقاط النظام الأمني المستبد في دمشق ، ولا يمكننا هنا أن نغفل دور إسرائيل المتحكم الخفي بالكثير من الملفات المتشابكة في الشمال والجنوب ، والتي تَستخدم نفوذها في الغالب لخلط الأوراق وإعادة اللعب مجددا على قواعد جديدة تختلف عن سابقاتها في كل مرة .
وبينما فشل السوريون المرة تلو الأخرى في الاتفاق على مشروع دقيق موحد لمستقبل سوريا ، وآثر كل سياسيي الثورة أن يتلظّوا خلف شعارات وعناوين فضفاضة ومبهمة وتحتمل الكثير من التأويل والتحريف ، دون التكلف بالتعرض للتفاصيل أو الآليات التي من شأنها حشد المزيد من التأييد الشعبي لمشروع التغيير ، ظهر في الساحة السورية مشروعات دينية ( لا سورية ) تحاول إلباس المستقبل السوري أثوابا لم تنسج في بيئتها ، إلا أن موادها الأولية قد تكون متوفرة بكثرة فيها وفي كل مكان ، ولأن هذه المشروعات بدأت في التسلل إلى الذهنية الشعبية السورية ، وتمت إدارتها بعناية ، واهتمام ، كان من السهل لها أن تتفوق وتأخذ الحيز الأكبر من التأثير على الأرض وخصوصا في جو انعدام الثقة مع كل من فرضوا أنفسهم قياديين سياسيين على ظهر الثورة .. سواءا في المجلس الوطني أو في الائتلاف اللذان ورثا الفكرالعاجز من ديناصورات إعلان دمشق . والقصة بدأت حين استحوذ الإخوان المسلمين على الدعم ، وبدأت الجهات التي ادعت حرصها على تمويل الثورة ، بربط الدعم بالاتجاه الديني للقوة الفاعلة .. فجنحوا بالثورة باتجاه الأسلمة ، الأمر الذي تم تكريسه في كل مكان ، وكان أول التصريح فيه حين أكد مؤتمر حزب الإصلاح الذي انعقد في غازي عينتاب في بدايات 2012 بحضور أكثر من 200 ناشط وقائد ميداني على (إسلامية الثورة ) في بنده الأول من مقررات المؤتمر .. من هنا بدأت تخلع الثورة في سوريا ثوبها المدني وترتدي ثوبها الديني بأيدي أبناء سوريا الذين تحول معظم قادتهم من ممثلين لطلّاب الحرية إلى اطراف في الصراع على السلطة ضمن أجندات دولية مختلفة .
لم يكتب لإسلامية الثورة العمر الطويل ، حيث انتقل الداعمون خلال نفس العام لرفع شعارات تنحو نحو (تسنين الثورة ) بعد أن أعلن مجلس الإفتاء العالمي خلال اجتماعه في مصر تأييده للثورة في سوريا وإعلانه الجهاد المقدس على أرضها .. وكانت آنذاك جبهة النصرة هي الفصيل العسكري الوحيد الذي يقاتل لأجل الدين بشكل لا مواربة فيه فيما كان حزب التحرير الذي أسس الجبهة الإسلامية الموحدة هو الوحيد الذي يعمل في السياسة في سبيل إنشاء دولة الخلافة على منهاج النبوة .. لكن بعد ذلك أصبحت الحماسة الدينية في أشدها وتكاثرت الفصائل الإسلامية السنية بشكل مضاعف واختلفت تبعياتها وسرعان ما انعكس اختلاف التبعيات على أرض الواقع حيث بدأت الخلافات العسكرية تقع بين الفصائل ذاتها التي تجاهر في العلن تأييدها المتطابق لمسيرة الحرية فيما تفضح خلافاتهم في السر الحقيقة النابعة من اختلافات الجهات الممولة لهم . لكن مع كل هذا لم يمنع أبدا استغلال جهات دولية كثيرة لهذا الظرف والعمل على تكريس بروز مشروع دولة الخلافة على منهاج النبوة كمشروع واضح المعالم ومتماسك وله شعبية واسعة ليطرح نفسه بديلا عن النظام في دمشق ، لا بل وعن كل الأنظمة في العالم الثالث وحتى ضمن كل الحزام الأوراسي ، فوصلنا إلى مرحلة قد لا تكون نهائية ، وهي دعوشة الثورة !!.
الدولة الإسلامية في العراق والشام حظيت بدعم دولي كبير وتكتم دولي أكبر وكأنها كانت المشروع الوحيد المتوافق عليه دوليا ، إذا يصعب على الإنسان البسيط تصديق عجز المجتمع الدولي عن تتبع 3000 سيارة داعشية مصنعة في مصنع عالمي معروف جدا بمقاس واحد وبمواصفات ( خاصة ) !! هذا إذا لم ندخل بتساؤلاتنا نحو ادلة أخرى .. !! ربما كان المجتمع الدولي بحاجة إلى رائز محدد ليحدث تغييرات جذرية في خرائط المنطقة ، لأن دور داعش فعليا ، لم يتعدى كونها الذريعة التي تمرر عليها كل خيارات التفتيت للمنطقة برمتها على اعتبار من يؤيدها من جهة ومن ليس لديه القدرة على تحملّها في الجهة المقابلة ..
عند هذا المفترق أعلن في كواليس السياسة وبإخراج إسرائيلي كامل عن مشروع تقسيم سوريا إلى سوريتين ، سوريا الصغرى التي تضم سوريا الغربية بحدود من غربي إدلب إلى غربي حمص إلى دمشق مع كل منطقة الساحل السوري ، وسوريا الكبرى التي تضم كل المناطق شرقي هذا التحديد ، دون الخوض في مصير الجنوب السوري الذي يتنازعه اليوم النفوذ السعودي والإسرائيلي ولم يتقرر مصيره حسب هذه النظرية بشكل واضح أو بمعنى آخر .. لم تعلن النوايا تجاهه حتى الساعة . ومع أن هذا المشروع لم يلقَ اهتماما إعلاميا كافيا ، إلا أنه يلق كل الاهتمام الميداني الذي تفضحه خرائط الأعمال العسكرية التي تحدث وكأنها فعلا تجري ضمن خطوط ترسيم حدود منسجمة مع هذا المشروع ليس إلا ..
في المقابل يطرح الأوربيون ويدعمهم الأمريكيون في هذا الطرح ، مشروع تقسيم من نوع آخر ، وهو التقسيم الديمغرافي .. أو الإثني .. بحيث تخرج علينا دولة كردية في الشمال تمتد حتى أقصى الشمال الشرقي ، ودولة علوية تقريبا بنفس حدود سوريا الصغرى في المشروع السابق باستثناء دمشق لكن مع ضم جزء كبير من طرابلس اللبنانية ودولة درزية في الجنوب تمتد من جنوب معبر التنف على الحدود العراقية لتشمل كل البادية ضمن حضن الحدود الأردنية ، وتمتد غربا من جنوب تل دكوة في ريف دمشق الجنوبي إلى ريف القنيطرة لتلاقي الجولان وتتعمق شمالا باتجاه جبل لبنان في حين تمتد جنوبا من ( الديرعلي ) في ريف دمشق إلى غربي (بصرى الشام) في ريف درعا بخط مستقيم إلى حدود المملكة الأردنية التي ستقضم جزءا من محافظة (درعا) وتضمه إليها في الترسيم الجديد .. وبين هذه الدول الثلاث الكردية والعلوية والدرزية تتمدد الدولة السنية التي يرى الأوربيين أن على سكانها حل خلافاتهم ضمنها على شكل الدولة القادم إن كانت دولة خلافة أو دولة اعتدال إسلامي أو غيرها دون القدرة على فرض ذلك على باقي المكونات السورية ، كما لم يــَـفُـت الأوربيين أن يقسموا الدولة (( السنية ذاتها )) إلى شمالية شرقية تطبق نموذج الخلافة على منهاج النبوة تحت سيطرة داعش ، وجنوبية تتضمن دمشق وريفها مع جزء كبير من القلمون ويمتد شمالا إلى حماة ليكون فاصلا وحدّا آمنا بين دولة الخلافة والدولة العلوية ، بحيث تطبق نموذج الإسلام الأكثر اعتدالا تحت نفوذ يتقاسمه جيش الإسلام مع جبهة النصرة وبواجهة سياسية إخوانية على الأغلب ....
وفي حين تدعم السعودية أيضا هذا الخيار وتحاول جاهدة بسط نفوذها في الجنوب وحتى في الوسط الدرزي بواسطة أذرع لبنانية وعشائرية لها في المنطقة ، تشاركها إسرائيل هذا السعي لكن بذريعة حقها في ضمان حدود آمنة ، وفي هذا الإتجاه فإن إسرائيل اليوم تحرّك وتموّل كل الفصائل العسكرية التي ترابط على حدودها وبعمق لا يقل عن خمسة عشر كيلو مترا وقد يزيد عن الثلاثين كيلو مترا ، لأنها الأكثر دراية أن أمنها لا ينتظر ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا ولا يمكن أن ينتظر اتفاق المجتمع الدولي ، لذلك قررت أن تضمن لنفسها حدودا آمنة وتضع عليها حرسا مطيعا يحمل الولاء الذي صنعته واعتادته طيلة عقود من حكم نظام دمشق .
ولأن الأتراك يعلمون علم اليقين أن أي مساس بوحدة سوريا سينعكس تشظيا وتفتيتا لكامل دول المنطقة ، ولأنهم يدركون في قرارة أنفسهم - وبناءا على معلومات أكيدة توفرت لهم - أن تركيا هي الهدف الرئيسي من تداعيات تقسيم سوريا ، فإنها تقف اليوم وحيدة في مواجهة مشروع تقسيم سوريا ، وهي تدرك أن تمدد دولة كردستان العراق لتشمل ( كردستان سوريا ) لا يعني إلا إنجاز الخطوتين الأوليتين اللتان تسبقان المطالبة بضم ( كردستان تركيا ) لهما في الوقت الذي يزيد عدد الأكراد في تركيا عن عشرين مليون نسمة من مجمل عدد سكانها ، وتعرف أيضا أن خطر نشوء دولة علوية في الجنوب الغربي سيحمل ذات النتيجة بسبب التداخل الديمغرافي بين علويي سوريا وعلويي تركيا التي تضم أكثر من 12 مليون علوي أيضا معظمهم من العلويين الكرد ... إنها تعرف بدقة أن لعبة تقسيم سوريا إن أنجزت ستكون بمثابة انهيار حجر الدومينو الأول الذي سيؤدي لانهيار كامل المصفوفة وتفتيت كامل المنطقة ، وفي مقدمتها تركيا صاحبة الحلم الكبير في أن تكون دولة عظمى في غضون سنوات ، وتسعى لتفعيل المصالحات الداخلية ضمن هذا الأمل ، وتنتظر موعد انضمامها للاتحاد الأوربي في نهاية 2015 كفرصة أخيرة تمنحها هي للأوربيين في تجميع الجهود ، قبل أن تبدأ بتغيير استراتيجيتها التعاونية إلى الإستراتيجية التنافسية .. .. كل هذا سيتهاوى عند تركيا إذا ما تم تقسيم سوريا ، لهذا سمحت للتقارب التركي الإيراني أن يحدث مؤخرا ، وفتحت الباب للرئيس الروسي بوتين لمناقشة قضايا مصلحية تتعلق بحماية نفوذ كل منهما في المنطقة برمتها ، وكان من ضمنها صيانة وحدة سوريا . ومع أن اللقاء مع الرئيس الروسي لم ينتج عنه الكثير ، إلا أن التقارب الإيراني كان لمصلحة تركيا حين أعلن الوزير الإيراني رغبة أن تسير إيران وفقا للتجربة التركية وفـَتَحَ الباب واسعا باتجاه التعاون معها في كل المجالات . وما يثبت أن تركيا جادة في مقاومة مشروع التقسيم هو ما قامت به بالأمس من قصف مكثف على مواقع عسكرية لحزب العمال الكردستاني الذي قال بأنه كان يعد العدة لمناصرة الأكراد في كوباني ، لكن لم يكن خافيا على الأتراك ضرورة الربط بين الزيارات المكثفة للمسؤولين الأوربيين والأمريكيين للمناطق الكردية في شمال شرقي سوريا وبين التحرك العسكري المفاجيء – لكن المُراقَب – لحزب العمال الكردستاني في تركيا في ذات الإتجاه .
من كل ما سبق نستنتج أن ما يسمى بالمبادرة الروسية ليس إلا مسعى لتكريس خيارها في المشروع الأول ، مع علم روسيا أن لا أحد من المدعوين أو من رافضي الدعوة ، قادر على التحكم بقطعة سلاح واحدة على الأرض ، لكن الروس يريدون من كل الأمر، ورقة ضغط لا أكثر قد تستخدم في زمن ما لنصرة مشروعها في المنطقة .
ومن كل ما سبق نجد أن كل قصائد السياسيين السوريين والناشطين الذين ينادون بوحدة سوريا من وراء الحدود ، لا ثقل لها إلا في ضمائر أنصار السلام الذين لا يؤمنون بالسلاح طريقا للاستقرار ، في الوقت الذي يستغل حملة السلاح تخاذل هؤلاء ، ويرسمون بفوهات البنادق مستقبلا سيفرضونه على الجميع ، حسب ما تؤول إليه صراعات القوى الكبرى المتحكمة في المنطقة ..
ومن كل ما سبق نجد أن مشروع الأمريكان في (( اليوم التالي )) ومشروع الأوربيين في (( تحالف قرطبة )) واستثمار الفرنسيين في (( الديمقراطيين )) ومشروع السعودية في توحيد كتائب الجنوب ( المحاولة الثالثة عشرة ) وغيرها من المشاريع الجادة شكلا ، قد لا يكتب لها التنفيذ على أرضِ واقعٍ لا يجمع بين هؤلاء جميعا جغرافيا ً . وخصوصا أن الجميع يعلم أن النظام في دمشق لا يزال يفكر في غرفة واحدة ويمتلك القدرة على التنفيذ في كل أرجاء سوريا بنفس الطريقة والدقة ، بينما خذل أنصار الثورة ثورتهم وأصبحوا في كل حيّ من أحياء سوريا متنابذين متنافسين ومتصارعين على سلطة واهية لن تدوم لأحد في الزمن الذي تتقاطع فيه مصالح كل العالم في أن يــُفـني السوريون بعضهم بعضا .