مسيرات ربيعيّة في ظلّ شتاء انتخابيّ
بقلم: أمير خنيفس
المسيرات الجماهيريّة الّتي شهدتها قرانا في الجليل والكرمل في الأسابيع الماضية في أحضان الطّبيعة ظاهرة جميلة ومرحّب بها للعديد من الأسباب، أهمّها أنّها تفسح المجال للّقاء بين الأحبّة وأبناء المجتمع في أجواء مريحة في عصر يكاد يكون التّواصل الوحيد فيه يقتصر على حديث عبر هواتف جوّالة وشاشات الكترونيّة.
هذه المسيرات في أحضان الطبيعة لها دورٌ هامّ لأنّها تعيدنا في إلى فترة شعرنا بها بالأمان بالرّغم من انعدام مراكز الشّرطة في قرانا، وبالتّآخي والقرب بالرّغم من شوارعنا غير المعبّدة، وللكبار في السن من بيننا، فإنّها تعيدهم إلى رحاب الأرض ورائحتها وإلى تلك الأيّام التي عاشوا بأغلبيّتهم على منتوجاتها وخيراتها.
ولكن بكلّ أسف أصبح واضحًا أنّ هذه المسيرات تعاني من غياب واضح لشريحة واسعة من أبناء كلّ قرية، أو بكلمات أخرى يمكننا الادّعاء بأنّ المشاركة فيها تكاد تكون مقتصرة على شريحة معيّنة من أبناء القرية، بغضّ النظر إذا كانت قد نظّمت تحت شعار مسيرة مقام النّبي شعيب السّنوية، أو مسيرة المقامات، أو كما تعرف في أغلبيّة قرانا بمسيرة الرَّبيع.
السّبب الأوّل والأكثر تأثيرًا لمثل هذا الغياب يعود إلى الحملات الانتخابيّة القاسية الّتي مرّت بها قرانا خلال شهر أكتوبر الماضي، والكراهية والعداء اللَّذَين خلقتهما هذه الحملات بين أبناء البلد الواحد. حيث مزّقت بشكل فاجع النّسيج الاجتماعيّ الّذي يجمعنا سويّة، وإمكانية التّعاون المشترك في مشاريع جماهيريّة حتّى لو اقتصرت على مسيرة جماعيّة في الطّبيعة.
وكان ممّا زاد الحملات الانتخابيّة الأخيرة شراسة التّطوّر الإلكتروني، وعالم الإنترنت، وقدرة أصحاب المصالح الضّيّقة والانتهازيّين على دقّ إسفين الكراهية بين الفئات المتنافسة وأتباعهم، متجاهلين عمدًا الأبعاد السّلبيّة والأضرار الّتي تسبّبها مثل هذه الأعمال للنّسيج الاجتماعيّ الّذي يجمعنا سويّة في السّرّاء وفي الضّرّاء.
الموضوع يزداد إحراجًا حين يتبيّن بأنّ قيادات سياسيّة تهاونت مع جزء من القائمين على مثل هذه التّصرفّات الدّنيئة، بل حاولت إقناع نفسها وطاقمها الانتخابيّ أنّ مثل هذه الحيل جزء من مقوّمات الدّيمقراطيّة ومن قوانين اللّعبة السّياسيّة المعاصرة. هذا بدل أن تقف على مبادئها بشكل صارم في وجه أيّة محاولة تطعن في المركّبات الثقافيّة والعادات الّتي تجمعنا سويةً كعائلة واحدة في بلد واحد. وقد غاب عن أذهان جزء من هذه القيادات أنّ ما يُلائم مجتمعات تعيش على الانفراديّة غير مقبول، بل مرفوض في مجتمعنا المبنيّ على العطاء الجماهيريّ المتبادل كما هي الحال في مجتمعنا.
المحزن أكثر هو عواقب الحملات الانتخابيّة الشّرسة على عمل القيادات السّياسيّة في فترة ما بعد الانتخابات. فبالرّغم من محاولاتهم للحصول على الشّرعيّة من جميع أبناء بلدهم وأقناع أكبر عدد ممكن في المشاركة في فعاليّاتهم الجماهيريّة، تفشل جميع محاولاتهم ويبقى عملهم مقتصرًا على شريحة واحدة داخل قراهم. هذا الأمر لا يدعو إلى الاستغراب خاصةً بعد أن اعتمدت حملتهم الانتخابيّة وحملة الأحزاب الأخرى على وسائل كثيرة غير شرعيّة وغير أخلاقية أدّت إلى تمزيق جميع الرّوابط الاجتماعيّة الّتي تجمعنا وهو ما ينعكس على أيّ عمل جماهيريّ في فترة ما بعد الانتخابات.
مثل هذه الظّواهر معروفة جيدًا على مستوى الصّراعات الإثنيّة والحروب الأهليّة في دول متعدّدة الثّقافات، والّتي وبالرّغم من مرور سنوات عديدة من المصالحة بين القوى التي تنازعت خلال فترة الحرب لم تستطع التّحرر من مشاعر الكراهية والغضب الّتي غمرت نفوس أبناء الأطراف حين ذاك، وبهذا الانتقال إلى حياة طبيعية مبنية على التعاون والمشاركة بين أفراد المجتمع الواحد في فترة ما بعد الحرب.
الحملات الانتخابيّة الّتي تقوم على نهج الحروب الأهليّة، والّتي تسيطر عليها أعمال غير أخلاقيّة، يجب أن تصبح في طيّ التّاريخ، وعلينا أن ننتقل إلى مرحلة الحملات الانتخابيّة العصريّة المبنيّة على الحوار البنّاء، وعلى برامج عمل سياسيّة تهدف إلى دفع مجتمعنا إلى الأمام في جميع المجالات، وإلّا فإنّ مصير أيّ عمل جماهيريّ في الفترة ما بعد الانتخابات سيكون الفشل، وسيبقى محصورًا على مجموعة واحدة من المجتمع حتّى وإن كان هذا الحديث عن مجرَّد مسيرات في الطّبيعة.